فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً}:
يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم {أَمِ السماء} فمن قَدَر على السماء قَدَر على الإعادة؛ كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} وقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ.
ثم وصف السماء فقال: {بَنَاهَا} أي رفعها فوقكم كالبناء.
{رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى سقْفها في الهواء؛ يقال: سَمَكت الشيءَ أي رفعته في الهواء، وسَمَك الشيءُ سُمُوكاً: ارتفع.
وقال الفرّاء: كل شيء حَمَل شيئاً من البناء وغيره فهو سَمْك.
وبناء مَسْمُوك وسَنام سامِك تامِك أي عالٍ، والمسموكات: السَّمَوات.
ويقال: اسمك في الدَّيْم، أي اصعد في الدرجة.
قوله تعالى: {فَسَوَّاهَا} أي خلقها خلقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا شُقوق، ولا فُطُور.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعله مظلماً؛ غَطِشَ الليلُ وأغطشُه الله؛ كقولك: ظَلِم الليلُ وأظلمه الله.
ويقال أيضاً: أغطشَ الليلُ بنفسه، وأغطشه الله؛ كما يقال: أظلَم الليلُ، وأظلمه الله.
والغَطَش والغَبَش: الظلمة.
ورجل أغطَش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غَطِش، والمرأة غَطْشاء؛ ويقال: ليلة غَطْشاء، وليلٌ أغطش، وفلاة غَطْشَى لا يُهْتَدَى لها؛ قال الأعشى:
ويَهْماءَ بالليلِ غَطشَى الفَلا ** ةِ يؤنِسنِي صوتُ فَيادِها

وقال الأعشى أيضاً:
عَقَرْتُ لهمْ مَوْهِناً ناقتِي ** وغامِرُهُمْ مدلهِمٌّ غَطِشْ

يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده.
وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء؛ ويقال: نجوم الليل، لأن ظهورها بالليل.
{وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أبرز نهارَها وضوءها وشمسها.
وأضاف الضُّحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها.
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} أي بسطها.
وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء.
وقد مضى القول فيه في أول (البقرة) عند قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [البقرة: 29] مستوفًى.
والعرب تقول: دَحَوْت الشيءَ أدحوه دحواً: إذا بسطته.
ويقال لعش النعامة أُدحِيّ؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض.
وقال أمية بن أبي الصلت:
وبثَّ الخلقَ فيها إِذ دحاها ** فهُمْ قُطَّانُها حتّى التنادِي

وأنشد المبرّد:
دحاها فلما رآها استوت ** على الماءِ أرسى عليها الجِبالاَ

وقيل: دحاها سوّاها؛ ومنه قول زيد بن عمرو:
وأَسلمتُ وجهي لمن أَسلمتْ ** له الأَرضُ تحمِل صَخْراً ثِقالا

دحاها فلما استوت شَدَّها ** بأيْدٍ وأرسَي عليها الجِبالا

وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت.
وذكر بعض أهل العلم أنّ (بعد) في موضع (مع) كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها؛ كما قال تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13].
ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سَيِّءُ الخلق؛ قال الشاعر:
فقلت لها عَنِّي إِليكِ فإنّنِي ** حَرَامٌ وإِني بعد ذاك لَبيبُ

أي مع ذلك لبيب.
وقيل: بعد: بمعنى قبل؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105] أي من قبل الفرقان؛ قال أبو خِرَاش الهذليّ:
حَمدتُ إِلهِي بعد عروة إِذنجا ** خِراشٌ وبعض الشر أهون مِن بعضِ

وزعموا أَن خِراشاً نجا قبل عروة.
وقيل: {دحاها}: حرثَها وشقها.
قاله ابن زيد.
وقيل: دحاها مهّدها للأقوات.
والمعنى متقارب.
وقراءة العامة {والأرض} بالنصب، أي دحا الأرض.
وقرأ الحسن وعمرو ابن ميمون {والأرض} بالرفع، على الابتداء؛ لرجوع الهاء.
ويقال: دحا يدحو دَحْوا ودَحَى يَدْحَى دحيا؛ كقولهم: طغَى يطغَى ويطغُو، وطغِىَ يطغى، ومحا يمحو ويمحي، ولَحَى العودَ يلحَى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحي قال دحْيت.
{أَخْرَجَ مِنْهَا} أي أخرج من الأرض {مَاءَهَا} أي العيون المتفجرة بالماء.
{وَمَرْعَاهَا} أي البنات الذي يُرْعَى.
وقال القُتَبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء.
{والجبال أَرْسَاهَا} قراءة العامة {والجبالَ} بالنصب، أي وأرسَى الجبال {أرساها} يعني: أثبتها فيها أوتاداً لها.
وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم {والجبالَ} بالرفع على الابتداء.
ويقال: هلا أدخل حرف العطف على {أخرج} فيقال: إنه حال بإضمار قد؛ كقوله تعالى: {حصِرت صدورهم}.
{مَتَاعاً لَّكُمْ} أي منفعة لكم.
{وَلأَنْعَامِكُمْ} من الإبل والبقر والغنم.
و{متاعا} نصب على المصدر من غير اللفظ؛ لأن معنى {أخرج مِنها ماءها ومرعاها} أمتع بذلك.
وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعاً. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً}
خطابٌ لأهل مكةَ المنكرين للبعث بناءً على صعوبتِه في زَعْمِهم بطريقِ التوبيخِ والتبكيتِ بعدَ ما بيّنَ كمالُ سهولتِه بالنسبةِ إلى قُدرةِ الله تعالى بقوله تعالى: {فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ واحدة} أي أخلقُكُم بعد موتِكم أشدُّ أي أشقُّ وأصعبُ في تقديرِكم {أَمِ السماء} أي أمْ خلقُ السماءِ على عِظَمِها وانطوائِها على تعاجيبِ البدائعِ التي تحارُ العقول عن ملاحظةِ أدناهَا كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} وقوله تعالى: {أَوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وقوله تعالى: {بناها} الخ، بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خلقِها المستفادِ من قوله: {أمِ السماءُ} وفي عدمِ ذكرِ الفاعلِ فيه وفيما عطف عليهِ من الأفعالِ من التنبيهِ على تعينِه وتفخيمِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يخفى.
وقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا} بيانٌ للبناء أي جعلَ مقدارَ ارتفاعِها من الأرضِ وذهابِها إلى سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً مسيرةً خمسمائةِ عامٍ {فَسَوَّاهَا} فعدَّلها مستويةً ملساءَ ليسَ فيها تفاوتٌ ولا فطورٌ أو فتممَها بما عَلم أنها تتمُّ بهِ من الكواكبِ والتداويرِ وغيرِها مما لا يعلمُه إلا الخلاَّقُ العليمُ من قولهم: سَوَّى أمرَ فلانٍ إذا أصلَحَهُ {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعلَه مظلماً يقال: غطشَ الليلُ وأغطشَهُ الله تعالى كما يقال: ظلَم وأظلَمَهُ وقد مَرَّ هذا في قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} ويقال أيضاً أغطشَ الليلُ كما يقال أظلمَ {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أبرزَ نهارَهَا عبرَ عنْهُ بالضُّحىَ لأنه أشرفُ أوقاتهِ وأطيبُها فكانَ أحقَّ بالذكرِ في مقامِ الامتنانِ وهو السرُّ في تأخيرِ ذكرِ الليلِ وفي التعبيرِ عن إحداثهِ بالاخراجِ فإنَّ إفاضةَ النورِ بعد الظلمةِ أتمُّ في الإنعامِ وأكملُ في الإحسانِ وإضافةُ الليلِ والضُّحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتها ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطةِ الشمسِ أي أبرزَ ضوءَ شمسِها والتعبيرُ عنه بالضُّحى لأنَّه وقتُ قيامِ سُلطانها وكمالِ إشراقِها.
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} أي بسطَها ومهَّدها لسكْنى أهلِها وتقلبِهم في أقطارِها وانتصاب الأرضَ بمضمرٍ يفسرُه دحاها {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بأنْ فجرَ منها عيوناً وأجْرَى أنهاراً {ومرعاها} أي رعيَها وهو في الأصلِ موضعُ الرَّعِي وقيلَ: هو مصدرٌ ميميٌّ بمَعنى المفعولِ، وتجريدُ الجملة عن العاطفِ إما لأنَّها بيانٌ وتفسيرٌ لدحاها وتكملةٌ له فإنَّ السكْنى لا تتأتَّى بمجرد البسطِ والتمهيدِ بلْ لابد من تسوية أمرِ المعاشِ من المأكلِ والمشربِ حتماً وإما لأنها حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قدْ عندَ الجمهورِ أو بدونِه عند الكوفيينَ والأخفشِ، كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} {والجبال} منصوبٌ بمضمرٍ يفسرُهُ {أرساها} أي أثبتَها وأثبتَ بها الأرضَ أن تميدَ بأهلِها وهذا تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ الرسوَّ المنسوبَ إليهَا في مواضعَ كثيرةٍ من التنزيلِ بالتعبيرِ عنها بالرَّوَاسِي ليسَ من مقتضياتِ ذواتِها بلْ هو بإرسائِه عزَّ وجلَّ ولولاهُ لما ثبتتْ في أنفسِها فضلاً عنْ إثباتِها للأرضِ وقرئ {والأرضُ والجبالُ} بالرفعِ على الابتداءِ ولعلَّ تقديمَ إخراجِ الماءِ والمَرْعى ذكراً مع تقدمِ الإرساءِ عليهِ وجُوداً وشدةِ تعلقِه بالدَّحْوِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ المأكلِ والمشربِ معَ ما فيهِ من دفعِ توهمِ رجوعِ ضميريْ الماءِ والمَرْعَى إلى الجبالِ وهذا كما ترَى يدلُّ بظاهرِه على تأخرِ دَحْوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ وما فيهَا كمَا يُروى عن الحسنِ مِنْ أنَّه تعالى خلقَ الأرضَ في موضعِ بيتِ المقدسِ كهيئةِ الفهرِ عليه دُخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفهرَ في موضعِها وبسطَ منها الأرضَ وذلكَ قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} الآيةَ وقد مرَّ في سورةِ حم السجدةِ أنَّ قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض في يوميْنِ} إلى قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ} الآيةَ إنْ حُملَ ما فيهِ من الخلقِ وما عطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ لا على تقديرِها فهُو وما في سورةِ البقرةِ من قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} يدلانِ على تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ.
وقد رُويَ أنَّ العرشَ كانَ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالى أحدثَ في الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقي على وجه الماءِ فخلقَ فيه اليبوسةَ فجعلَهُ أرضاً واحدةً ثم فتقَها فجعلها أَرضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه السمواتِ.
ورُويَ أنَّه تعالى خلقَ جرمَ الأرضِ يوم الأحدِ ويوم الاثنينِ ودحاها وخلقَ ما فيها يوم الثلاثاءِ ويوم الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يوم الخميسِ ويوم الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلام في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ فالأقربُ كما قيلَ تأويلُ هذه الآيةِ بأن يُجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذِكرِ ما ذُكِرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمكها وتسويتِها وغيرِها لا إلى أنفسِها ويحملُ بعديةُ الدَّحْوِ عنْها على البعديةِ في الذكرِ كما هُو المعهودُ في ألسنة العربِ والعجمِ لا في الوجود لما عرفتَ من أنَّ انتصاب {الأرضِ} بمضمرٍ مقدمٍ قد حُذِفَ على شريطةِ التفسيرِ لا بما ذُكِرَ بعدَهُ ليفيدَ القصرَ وتتعينَ البعديةُ في الوجودِ، وفائدةُ تأخيرِه في الذكرِ إما التنبيهُ على أنَّه قاصرٌ في الدلالة على القدرة القاهرةِ بالنسبةِ إلى أحوالِ السماءِ وإما الإشعارُ بأنَّه أدخلُ في الإلزامِ لما أن المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهم بتفاصيلِ أحوالِه أكملُ وليسَ ما رُويَ عن الحسنِ نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوف على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماءِ بالواوِ التي هي بمعزلٍ من الدلالةِ على الترتيبِ، هذا على تقديرِ حملِ ما ذكرَ في آياتِ سورةِ السجدةِ من الخلقِ وما عطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ وأما إذا حُملتْ على تقديرِها فلا دلالةَ فيها إلا على تقدمِ تقدير الأرضِ وما فيهَا على إيجاد السماءِ كما لا دلالةَ على الترتيب أصلاً إذا حُملتْ كلمةُ ثُمَّ فيها وفيمَا في سورةِ البقرةِ على التراخِي في الرتبةِ وقد سلفَ تفصيلُ الكلامِ في السورةِ المذكورةِ.
وقوله تعالى: {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم}
إما مفعولٌ لهُ أي فعلَ ذلكَ تمتيعاً لكُم ولأنعامِكم لأنَّ فائدةَ ما ذُكرَ من البسطِ والتمهيدِ وإخراجِ الماءِ والمَرْعى واصلةٌ إليهم وإلى أنعامِهم فإن المرادَ بالمَرْعى ما يعمُّ ما يأكلُه الإنسانُ وغيرُه بناءً على استعارةِ الرَّعي لتناولِ المأكولِ على الإطلاقِ كاستعارةِ المرسنِ للأنفِ.
وقيل: مصدرٌ مؤكدٌ لفعلِه المضمرِ أي متَّعكُم بذلكَ متاعاً أو مصدرٌ من غير لفظِه فإنَّ قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} في معنى متَّع بذلكَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{ءأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً}
خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعدما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه: {فإنما هي زجرة واحدة} [النازعات: 13] ونصب {خلقاً} على التمييز وهو محول عن المبتدا أي أخلقكم بعد موتكم أشد أي أشق وأصعب في تقديركم {أَمِ السماء} أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى: {بناها} إلخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى: {أم السماء} وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى وقوله سبحانه: {رَفَعَ سَمْكَهَا} بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديداً رفيعاً وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعاً في جهة العلو ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد من العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلا أن بمنع عنه مانع {فَسَوَّيهَا} أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع وقيل جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحاً بعضها زاوية وبعضها خطاً وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير وقالوا وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها تتميمها بما يتم به كما لها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بين في علم الهيئة من قولهم سوى أمره أي أصلحه أو من قولهم استوت الفاكهة إذا نضجت وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السموات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها أهل الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)}
{فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعله مظلماً يقال غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال ظلم وأظلمه ويقال أيضاً أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش قال الأعشى:
عقرت لهم ناقتي موهنا ** فليلهم مدلهم غطش

وفي (البحر) عن كتاب اللغات في القرآن أغطش أظلم بلغة أنمار وأشعر {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أبرز نهارها والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمي به الوقت المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة وقيل الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاتها وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها وقيل إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهماً إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهماً إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفل كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كل في فلك يسبحون وإن الفلك ليس إلا مجرى الكوكب في السماء وقيل أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه وفي (الكشاف) أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضاً اعتبار بمرأى الناظر وقيل إضافتهما إليها باعتبا رأنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوى وتعقب بأنهم قالوا إن ظل الأرض لمخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل وبالجملة الإضافة لأدنى ملابسة.
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ} الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وأغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط وانتصاب {الأرض} بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى ومعنى قوله تعالى: {دحاها} بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحى بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها ** فهم قطانها حتى التنادي

وقيل دحاها سواها وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له الأرض تحمل صخراً ثقالاً

دحاها فلما استوت شدها ** بأيد وارسي عليها الجبالا

والأكثرون على الأول وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروى الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلاً قال له آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى فقال إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ: {قال قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض في يوميْنِ} حتى بلغ {ثم استوى إلى السماء} [فصلت: 9-11] وقوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} قال خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدما خلق السماء وإنما قوله سبحانه: {دحاها} بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولاً ثم دحوها ثانياً خلق مادتها أولاً ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] {فسواهن سبع سموات} إن السماء خلقت مادتها أولاً ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السموات ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السموات وأجيب بأن خلق في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولاً فأولاً سلمنا أن المراد الايجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل ومن الناس من حمل ثم على التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض وقال عصام الدين أن بعد ذلك هنا كما في قوله تعالى: {عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] يعني فعل بالأرض ما فعل بعدما سمعت في السماء والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ورعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كل يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن اغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلاً ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة وأيضاً قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكره وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسن مادة الاشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مأخر فقال ابن الطاشكبري نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة وأن البعدية هاهنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} [فصلت: 9] وكذا في قوله سبحانه: {وجعل فيها رواسي} [فصلت: 10] وقالوا يؤيد ما ذكر قوله تعالى: {فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أئينا طائعين} [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد أئتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على خلق السموات والعكس هاهنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والايمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى.
وفي (الكشف) أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلا ما نقل الواحدي في (البسيط) عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من أطباق المفسرين فالوجه أن يجعل {الأرض} منصوباً بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمراً على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقاً من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيهاً على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملاً ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} [الأنبياء: 30] الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخاناً سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال لمبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روى أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى.
والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت أوما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيراً لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المراد وقوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بأن فجر منها عيوناً وأجرى أنهاراً {ومرعاها} يقع على الرعي بالكسر وهو الكنز والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن وقال الطيبي يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة {أأنتم أشد خلقاً} [النازعات: 27] كأنه قيل أيها المعاندون المللزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لـ: {دحاها} وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لابد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وكلا الوجهين مقتضى لتجريد الجملة عن العاطف.
وقوله تعالى: {والجبال} منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه: {أرساها} أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسول المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول وقرأ عيسى برفع {الأرض} والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع {الأرض} و{الجبال} وهو على ما قيل على الابتداء وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى: {بناها} لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه: {رَفَعَ سَمْكَهَا} [النازعات: 28] بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك وقيل إن جملة قوله تعالى: {والأرض} إلخ على القراءتين ليس معطوفة على قوله سبحانه: {رَفَعَ سَمْكَهَا} لأنها لا تصلح بياناً لبناء السماء فلابد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى وجوز عطف {الأرض} بالرفع على {السماء} من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقاً والأرض بعد ذلك أي والأرض بعدما ذكر من السماء أشد خلقاً فيكون وزان قوله تعالى: {دحاها} إلخ وزان قوله تعالى: {بناها} إلخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعراً بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء.
وقوله تعالى: {متاعا لَّكُمْ ولانعامكم} قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو إخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره وقيل مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك مختاعاً أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها} [النازعات: 31] في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصاً بالحاضرين إلا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضاً على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافاً لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث. اهـ.